مع قصص الغائبين والغائبات، نحاول لملمة الحكايات وتركيب القطع الناقصة. نصنع لهن/م حياة من جديد، أترانا بحاجة لذلك من أجلهن/م أم من أجلنا؟ أتراه انصافٌ لهن/م ولحقيقتهن/م أم لأنفسنا ووجودنا وكيف نريد أن نراهن/م؟

قرأت منذ أيام رواية سيلفيا بلاث الجرس الزجاجي، وهي شبه سيرة ذاتية عن الشاعرة التي انتحرت عام 1963. وهذه الرواية هي الوحيدة التي كتبتها (عدا الشعر). للمصادفة بدأت في اليوم التالي قراءة كتاب إيمان مرسال “في أثر عنايات الزيات” وعنايات الزيات انتحرت أيضًا عام 1963 وكانت قد كتبت رواية واحدة. الكاتبتان وُلدتا في الثلاثينيات من القرن الماضي، واحدة في بريطانيا والأخرى في مصر. وتعاني الكاتبتان على ما يبدو من المرض النفسي لأسباب متشابهة، رفض الناشرين أو المحررين لمحاولاتهن الكتابية التي اتضحت في ما بعد كتابات جيدة.

في محاولات ايمان مرسال الشاعرة تقفي أثر عنايات الزيات الكاتبة والمرأة، صنعت لها حياة في كتاب. بحثت عن صراعاتها، وأوجاعها، تصيدت من هنا وهناك حقائق وتخيلات لتركبها معًا. حاولت العبور فوق تمنيات العائلة والأصدقاء والمتسلقين، فوق ما يريدون رؤيته عن المرأة التي انتحرت. ليس سهلًا الاحتفاظ بصورة حقيقية بعد الموت، الموت يحيل كل شيء تخيلًا. تخيلًا لما أردنا أن يكون، لما أردنا نحن أن نكون معه ولم نستطع.

لماذا نخاف رؤية الموتى على حقيقتهن/م؟ لماذا نخاف الاعتراف بما كانوا؟ الأننا بذلك نعترف بما نحاول اخفاءه عن أنفسنا وبما نخاف أن يكتشفه الآخرون في حال موتنا؟ أم فقط لنخفف شعورًا بالذنب عن ما لم نستطع تحقيقه معهن/م قبل الرحيل؟

البوح طريق التعافي للباقيين والباقيات ربما، ولن نعرف يومًا إن كان الراحلون يفضلون أن يصبحوا منسيين ومنسيات أم أنهم تركوا أثرهم بخفة كي نبحث عنهم لنعيد قصصهم للحياة.

للصدفة أيضًا أثناء قراءتي للكتابين، انتشر فجأة نقاش حاد عن اعتراف سليم بركات بسر محمود درويش. للصراحة، لم يكن لي موقف من الموضوع. بين من يلوم بركات على إفشاء سر صديق بهدف الشهرة ومن انشغل بلوم درويش على استهتاره وعدم اعترافه بابنة، أجد نفسي غير معنية. الرابط الوحيد بين القصص هو الموت والغياب، الذي بعده بزمن يأتي أشخاص لينفضوا الغبار عن الذاكرة ويعيدوا تركيب الحكاية. حكاية الغائب.

سيلفيا بلاث كتبت عن نفسها بنفسها قبل أن تنتحر، اختارت لنا أن نعرف جزء من قصتها قبل أن تختار الموت. ولكنها أيضًا تركت يوميات كثيرة، أخذها زوجها، الذي كانت منفصلة عنه حين انتحارها ولكن قانونيا كان هو وريثها، وقرر بنفسه ما سيحرق منها وما سينشر. هناك شخص قرر أي جزء من القصة يمكن لنا أن نعرف وما يجب أن يخبئه عنا لأنه غير مناسب. غير مناسب لمن؟

حصل الأمر نفسه مع عائلة عنايات الزيات، اختاروا ما يجب الاحتفاظ به من قصاصاتها وما يجب التخلص منه. اختار الأهل والأصدقاء الجزء الممكن التكلم عنه من القصة.

مجددًا لا أدري، أأريد أن تنشر حياتي الشخصية بعد سنوات من موتي؟ هل سيعنيني أن يكتشف الآخر تفاصيلي عندما لا أعود موجودة؟ 

 المرأتين انتحرتا، اختاراتا الموت في زمان ومكان محدد، ألم يكن بإمكان كل منهما أن تحرق ما كتبت قبل أن ترحل لو لم ترد لأحد أن يعرفه؟ ألم تترك لنا الأثر لنعرف؟ درويش أخبر صديقه أيضًا، أراد لأحد على الأقل أن يكون شاهدًا. كلنا نريد بشكل أو بآخر أن يعرف الآخرون قصتنا وربما يكون ذلك أسهل بعد موتنا. 

يحيلني السؤال إلى أسباب بحث إيمان عن عنايات الزيات. النساء المنسيات، المهمشات والمقموعات. بغض النظر عن أهمية الرواية التي كتبتها عنايات الزيات، بإعادة كتابة قصتها نكتشف أنها لم تستطع أن تجد لها مكانًا ككاتبة في هذا العالم ولا كامرأة فانتحرت. إعادة كتابة تاريخ امرأة واحدة يعيدنا إلى تاريخ النساء جميعًا: كم امرأة كتبت وهُمشت؟ كم واحدة حاولت وأُبعدت؟ اللواتي كتبن وأُحرقت كتاباتهن بعد الموت خوفًا؟ اللواتي كتبن ونشرن باسم الرجال لأن أسماء النساء على الكتب غير جذابة؟ واللواتي أردن الكتابة ولم يتسنى لهن الوقت لأن واجب الأمومة أو الزوجية أعلى؟ 

أسئلة تطرحها سيلفيا وإيمان وعنايات وأطرحها أنا اليوم ليس فقط عن الكتابة بل عن كل امرأة أرادت ان تقف في أي مكان ولم تجد لها مساحة فاختفت بموتها. أليس واجبًا إعادة كتابة قصتها؟ البحث عن تفاصيل حياتها اللامعيارية التي حاول الجميع اخفاءها؟ في قصة الاثنتين أيضًا رجال، أزواج أو أصدقاء أو متسلقون، حاولوا بعد موتها أن يكتبوا  عنها، من أجلها؟ أم لأنهم أحسوا بالذنب؟ أم استغلوا لقصة ليكونوا هم محورها بغياب البطلة؟

ورغم أن الحديث عن بركات ودرويش يدور حول رجلين ويناقش الصداقة والاسرار والخيارات، فإنني أيضًا أنتبه هنا أن هناك امرأة مهمشة، حكايتها غير مكتوبة، امرأتين ربما. قد تكون راحتهما الآن أن لا يعرف أحد عنهما شيئا ولكن أليس لا بد في قصتهما أيضًا الكثير من التهميش والخيارات غير القابلة للتحقق لأسباب افترضها ولا أعرفها. 

ولربما يأتي شخص ما بعد عقود، ليلملم جزءًا آخر من القصة بعد موت الابنة. ولكن اليوم القصة تتمحور حول درويش. 

أب غير قادر على الإحساس بأبوته، ألا يحيلنا ذلك إلى أسئلة عن الأبوة والغريزة؟ عن خيارات الإنجاب ومسؤولياته؟ ومن أي موقع اتخذ درويش القرار بأن يبقى بعيدًا؟ ولا أسأل هنا لأحاسب درويش، فمحاسبة الموتى لن تفيد أحدًا. اسأل لانصاف الآخرين والأخريات. لانصاف الخيارات ومراجعة أشكال الأمومة والأبوة والزواج والعلاقات؟ 

عنايات الزيات أيضًا تركت ورقة قرب سريرها، ورقة لإبنها تطلب منه أن يسامحها وتقول له أن الحياة القاسية. هل تخلت عن أمومتها؟ 

قصص الموتى المنشورة هي القصص التي تتناسب مع معايير هذا المجتمع، حكايات تناسب المخيال الجماعي وتعيد وضعهم في الاطار البراق، كما نختار وضع أجمل صورهم في إطارات براقة على حيطاننا لتذكيرنا بهم. 

لهم حكاياتهم، من حقهم الخطأ والخطيئة، من حقهم الانكسار والجبن. نتجنب الحقيقة فقط لنتجنب أذية الأحياء وخوفًا على هشاشة الأخلاقيات المصطنعة.

نكتب قصص المهمشات، ننبش الوقائع لنملأ الفراغات في الحكاية، نعيد إحياء ما تم محوه أو تجاهله قصدًا، وتبقى تفاصيل نتخيلها كما كن ليردنها أن تكون لولا القمع. 

 

أترك تعليق