عن نساءٍ احترفن الحزن

في طفولتي، كانت للنساء في القرى عادة إقامة الموالد. و”المولِد”  كان يُقام في الأساس للإحتفال بذكرى ولادة النبي محمّد وتحوّل مع الوقت إلى طريقة للاحتفال بأية مناسبة سعيدة، زواج أو ولادة أو انتقال لمنزل جديد. تجتمع النسوة في مكان واسع ومقفل وينشدن الأناشيد الدينية المتوارثة والتي حفظنها من جيلٍ إلى جيل. تحمل الأناشيد معاني الفرح بولادة الرسول والمديح بتعداد صفات النبي ولكن هذه ليست مناسبة للوعظ والهداية. أكثر ما يهم هو اللحن الذي يترافق في كثير من الأحيان مع الدفّ ونساء يجدن الفرصة للتباهي بأجسادهن وارتداء ما يشأن والرقص بعيدًا عن القيود الاجتماعية.

كانت عاشوراء، في المقابل، فترة للحزن؛ عشرة أيامٍ من شهر محرّم يجتمعن فيها لإقامة مجالس العزاء. يرددن قصة حفيد النبي وعائلته وأنصاره، يتشاركن البكاء والندب ولكن في داخل كل منهن حزن من نوع آخر. فكل حزن يستحضر آخر، وهي مناسبة تذكّر كل منهن بمن فارقته من عائلتها وأحبابها، هنا تستطيع أن تبكي كما تشاء، تخرج كل معاناتها وتعاستها، محاطة بالآخرين في جو غامض من التآلف دون أن تعي كل منهن بالضرورة وجع الأخرى. ولكنها كانت أيام عشرة، تنتهي في العاشر من محرّم برواية حوادث اليوم الأخير في كربلاء. وكانت أمي تقول دومًا ذلك المثل المتداول “فكّوا مصرعكم وزفّوا عروستكم” أي ما أن ينتهي هذا اليوم يمكن العودة الى الحياة الطبيعية وإقامة الأفراح.
ولكن الحزن لسبب ما جاء يسكن هنا. في مرحلة ما، قد تكون مرحلة رمادية لم استطع أن أعيها لصغر سني أو ربما حصلت فجأة ، طغى اللون الأسود. زادت أيام عاشوراء لتصبح ثلاثة عشر، حيث بدأ إحياء الأيام الثلاثة اللاحقة التي تمثل معاناة السبايا بعد مقتل الحسين؛ ثم امتدت لأربعين يومًا درجًا على عادة إحياء ذكرى الميت بعد أربعين يوم على وفاته. واستُبدلت الموالد بمجالس العزاء الحسينية، أصبح مجلس العزاء يقام في كل مناسبة حتى تلك التي تحمل في ظاهرها معنى للفرح. على مدار السنة، لا يمكن أن يمر أسبوع دون إقامة مجلس عزاء في أحد بيوت البلدة أو القرية وطبعًا يتضاعف عددها كثيرًا في شهر محرم. لم تعد فقط طريقة لإحياء الذكرى واستخلاص العبر وتذكر المأساة التي تمثلها قصة الحسين للطائفة الشيعية، أصبحت فرصة لوعظ النسوة وتخويفهن ولكن أيضًا للتفاخر، فمن يملك مالًا أكثر سيسخى أكثر على الضيافة التي تقدّم في نهاية كل جلسة.

وكأن ما يعشنه من ظلم وقهر متراكم لا يكفي، أصبح الفرح بعيدًا أيضًا. أسود الحزن لم يعد فقط للثياب والعباءات، امتد للعيون والجبهات، أصبح بالإمكان رؤيته واضحًا ودائمًا. يزورهن الفرح، فالزواج وانجاب الاطفال لم يتوقف، نجاحات أبنائهن وحتى صبحيات القهوة القصيرة تلوّن حياتهن ولكنها سعادة سطحية، مؤقتة سرعان ما تترك مكانها لتعب الحياة اليومية.

يمكن للحزن أن يكون جميلًا، كالفرح، ولكن عندما يصبح متجذرًا يتحوّل الى حالة دائمة من الكآبة. كل الإنفعالات الأخرى من البهجة والسرور إلى الدهشة والحماسة  تصبح عابرة. ثقافة الحزن هذه أنجبت خوفًا مختبئًا وقسوة ظاهرة، أجيال تبحث عن السعادة في الزوايا ولكن تخاف منها، تحاول تدويرها لتلائم حزن المحيط المتناقل.

أعيدوا إلى النساء المتشحات بالسواد حقهن بالفرح، أولئك النسوة يحببن الحياة ايضًا.

 

أترك تعليق