جدتي والثورة

تعيش جدتي في ضيعتنا الجنوبية، عاشت فيها منذ ولدت ولم تعرف غيرها من المناطق إلا في زيارات متباعدة. أعيش في بيروت وأراها من وقت لآخر عندما أزور ضيعتي. منذ 17 تشرين الأول لم أزر البلدة وبقيت في بيروت، لم أشعر أنني قادرة على ترك ما يحدث هناك، كنت أريد أن أعيش كل لحظة منها. تجنبت أيضًا أن أواجه هذا المجتمع المؤيد بأغلبه للسلطة، لم أكن قادرة على سماع من يدافع عن حزب الله وحركة أمل في هذه الظروف. اليوم بعد أن هدأ الوضع قليلًا مررت بالبلدة وكنت متوجسة مما سأسمعه من جدتي.

جدتي سألتني عن الأوضاع في بيروت، جدتي سألتني عن جشع هؤلاء النواب والوزراء. قالت لي ألا يستطيعون أن يعيشوا بما يقبضون من معاشات؟ معاشاتهم أكثر بكثير مما تعيش به أية عائلة في هذه البلاد فلماذا يسرقون فوقها؟ لماذا يحتاجون كل تلك الاموال وما حاجتهم إلى تجميع الثروات؟

معك حق قلت لها وأنا ابتسم. جدتي في عامها الرابع والثمانين تتكلم ببساطتها عن ما لا يريد أن يعترف به الكثيرون من حكامنا.

تكمل: “مش لازم تكون هلقد صعبة، فينا نقول للنواب والوزارا: بدكم تفوتوا عالحكم؟ تفضلوا بس بتفوتوا بلا حصانة”، “فيش شي اسمه حصانة”، تكمل بلهجتها الجنوبية. الذي لم يخطئ لن يخاف والذي سرق ونهب سيحاسب.

تختصر جدتي، بكلامها جزءًا كبيرًا من المشكلة. لربما لا تفهم في الاقتصاد وفي تركيبة النظام وفي تراكمات الدين العام ولكنها تعرف أن الجشع والطمع راكم ثروات زعماء ومسؤولين لن يستطيعوا صرفها لا هم ولا أولادهم. وتعرف أن المحاسبة والقضاء ضروريان.

وكما في كل مرة أزورها تذكر جدتي الماضي وتخبرني كيف عاشوا دائمًا “عالقد”. تزوجت جدي وعاشوا في غرفة في منزل أهله، لم يكن في الغرفة سوى “فرشة ولحاف وحصيرة”. لم يملكوا شيئًا آخر ولا حتى صحنًا ليأكلوا فيه. يعمل جدي في الفلاحة ويأكلون في منزل أهله ومعهم. أنجبت اثنين من أخوالي وثلاثة من خالاتي على هذه الحالة، قبل أن ينتقلوا وهي حامل بأمي إلى بيت منفصل. كان جدي حينها قد وجد عملًا في الآثار. كانت تلك الفترة التي بدأ فيها التنقيب عن الآثار في منطقة صور وكانت مديرية الآثار بحاجة إلى الكثير من العمال. يقبض جدي شهريًا مئتي ليرة أو “ورقة” كما تسميها جدتي. ومع العائلة التي تكبر كان راتب جدي بالكاد يكفيهم للأكل والشرب والحاجات الأساسية.  لم يكن جدي قادرًا على إعطاء جدتي ولَو خمس ليرات من المعاش. شعرت جدتي بالعجز، أرادت أن تكون قادرة على شراء شيء للأولاد أو للبيت إن أرادت. لم تتعلم جدتي في مدرسة، لا تعرف عملًا تمارسه ولكنها كانت تخيط  بيدها ملابس داخلية مما تواجد من قطع قماش. طلبت منه أن يأتوا بماكينة خياطة مستعملة وبدأت بالخياطة. كانت تخيط كثيرًا للأقارب والجيران وتقبض القليل ولكنها كانت سعيدة أنها الآن تستطيع أن تقرر كيف تستعمل هذا المال القليل. تعطيه للأولاد، تقسمه فيما بينهم، عشرة قروش وبالمداورة بالأيام فهي لا تستطيع أن تعطي الجميع كل يوم. تشتري الصحون التي أرادتها للبيت. ترى الفساتين المعلقة في الواجهات وتشتري القماش وتخيط مثلها لبناتها. استقلت جدتي ولو بمال قليل ولم تحتج أن تطلب من أحد شيئًا ولا من جدي. تعجن وتخبز كل يوم، تطبخ وتجهز الأولاد للمدرسة وتنظف المنزل وتواصل الخياطة. في حينها لم تكن جدتي ربما تعرف ما الدولة وما الحكومة ولكنها  عاشت زمن الإقطاع وقاومته وعاشت قمع الأحزاب وخسرت أخاها مقتولًا. فهل يمكن لهذه السلطة الجشعة اليوم أن تفهم حياة امرأة في الرابعة والثمانين من عمرها وعاشت طوال حياتها “عالقد”؟

 هل يجب أن أشرح هنا ماذا فعل بها النظام الذكوري؟ قصص جدتي عن ما عانته في حياتها من قمع لا تنتهي، سكتت أحيانًا واعترضت أحيانًا ولكنها حتى عندما رضخت كانت تعي الظلم، أو ربما هي تعيه اليوم عندما تروي حكايتها من بعيد؟ لا أعرف.

لا تكف جدتي عن مفاجئتي، أنا التي لا أستطيع أن أتخطى ملاحظاتها المحافظة وتعليقاتها على ثيابي فأتوقع منها دائمًا مواقف نمطية. أعرف أن ما عاشته وخبرته يجعلها تكرر الكثير من الأفكار التقليدية التي تجعلني أحيانًا مترددة أمامها. ولكنها في كثير من الأوقات تسبقني وتتخطى توقعاتي. أتذكر الآن، أيضًا، مرة كنت أزورها وأخبرتني أن العاملة المنزلية في بيت خالي الملاصق لبيتها استغلت فرصة خروجهم في زيارة وخرجت قليلًا من المنزل لتزور العاملة في منزل أهلي القريب أيضًا. ولكنها لسوء حظها نسيت أن تأخذ مفتاح المنزل معها لتعود قبل أن يرجعوا ويكتشفوا فعلتها، وها هي الآن تنتظر عودتهم خائفة متوقعة العقاب. كانت جدتي تشاركها قلقها، تقول لي كيف لهم أن يحبسوها في المنزل ويخرجوا؟ إنها انسانة وتحتاج للخروج وتريد أن تتحدث مع أحد بلغتها. تعمل طوال النهار، ألا يحق لها بفترة استراحة. “لازم كمان يعطوها يوم عطلة تعمل في شو ما بدها”. كنت مبهورة بجدتي، ببساطتها وطيبة قلبها أدركت ما يعجز عن فهمه كثيرون. عندما عادوا إلى المنزل، ركضت الفتاة بخوف واضح، سمعنا خالي يصرخ عليها وجدتي تقول لي “رح أتخانق معه لما يجي لعندي، مش مقبول هالشي يللي عم يعمله، ما بقبلش ابني يعمل هيك”. ثورتنا أيضًا ثورة على نظام الكفالة.

جدتي، النسوية دون أن تعرف والمقاومة والمحاربة من أجل استقلاليتها. جدتي الرافضة للظلم والطمع واستغلال العمال. جدتي اليوم تجلس طوال النهار في المنزل، تتنقل فقط بين غرفة النوم وغرفة الجلوس والشرفة. تصلي وتشاهد التلفاز وتحدّث من يزورها. جدتي في منزلها الجنوبي، في وسط بلدة لا زالت ترفع رايات الأحزاب وصور الزعماء، مُقاومة وجزء من هذه الثورة.

 

أترك تعليق