ذاكرة الحرب

الحرب، كلمة تتردد في لبنان بشكل يوميّ هي جزء من تجربة كل منّا بطريقة أو بأخرى. وُلدت في آخر سنوات الحرب الأهلية، لم أكن واعية كفاية لأعايشها أو أتذكر شيئًا عنها؛ ما أعرفه عنها هو ما أخبرني به الآخرون، ما سمعته من شهادات وتجارب وما رأيته من أوجاع أناس حولي. رأيتها كل مرة بطريقة مختلفة في الأفلام والوثائقيات وفي عيون الأطراف المختلفة سواء مقاتلين أو زعماء أو مواطنين لم يشاركوا فيها إلا بفقدان احبائهم. لا بدّ ان هذه الحرب أثرت بتشكيل حياتي بطريقة ما، فهي الحرب التي عاشها أهلي وكانت جزءًا من تجربتهم في الحياة ومن خياراتهم؛ شكلت الظروف التي حكمت حياتنا وشخصاياتنا وطريقة تعاطينا.
ولكن الحرب التي طبعت ذاكرتي وأصبحت جزءًا مني أحمله هي حرب إسرائيل على لبنان، حرب امتدت على مدى عقود، عشتها أنا بشكل مباشر في عام 1996 عنما كان عمري تسع سنوات وعشتها مرة ثانية عام 2006 عنما أصبحت في التاسعة عشرة من عمري. عشتها مرتين، بوجع متشابه ولكن بوعي مختلف.
في نيسان 1996، كنت في ضيعتي الجنوبية. كنا معتادين بشكل دائم على سماع أصوات الطيران الإسرئيلي في الأجواء. كان يمكن لهذا أن يخيف طفلًا آخر ولكن ليس نحن. الفرق هذه المرة أن تحليق الطيران ترافق مع قصف، وهو ما لم يكن بمقدوري في حينها أن أستوعب خطورته. هل كان عقلي قادرًا على استيعاب أن تلك الطائرة قد تقتلني أنا كما تقتل أولئك الأطفال الذين أراهم في التلفاز؟! بعد عدة ايام من بدء الحرب التي سمّيت بعناقيد الغضب، عندما رأيت عمّي آتيًا ليقول لأهلي فلنهرب إلى بيروت، هناك منطقة أأمن، تحمست، فأنا لم أعش في بيروت يومًا وكانت تلك الفرصة لأكتشف شيئًا جديدًا. رفض أبي، قال لن أغادر هذا المنزل ولكنه قال لأمي خذي البنات واذهبي. جمعت أمي بعض الاغراض وانطلقنا إلى بيروت، ضاحية بيروت في الحقيقة، ولكن بالنسبة لي حينها لم يكن هنا فرق. كانت العائلة كلها هناك في شقة صغيرة، شقة عمة أهلي اتسعت لنا ولزوجات وأبناء عمومتي جميعًأ لا أعرف كيف. في اليومين الأولين كنت سعيدة، نسيت موضوع الحرب وسعدت باكتشاف الشوارع الضيقة واللعب مع أطفال العائلة الآخرين، هؤلاء الساكنين في بيروت والذين بدوا لي مختلفين لسبب ما. كنت أفرح عندما تأخذني ابنة عمتي معها في المساء لنشتري الخبز من شارع قريب وأتأمل المكان حولي بحذر، كأنني في فيلم رسوم متحركة حقيقي. لم تكن المدينة جميلة، كنت فقط مبهورة بما لم أعتد ان أراه. ثم غاب كل ذلك وبدأ الخوف، عندما بدات أعي اننا قد لا نعود، أننا لا نعرف متى ستنتهي هذه الحرب، أننا قد نبقى مهجّرين لوقت غير معروف. متى سأعود لأرى أبي؟ حينها لم يكن هناك هواتف خليوية وانترنت ووسائل للتواصل. كان من الصعب أن نعرف ما يجري فعلًا إلا من خلال أخبار التلفاز، وبدات أتساءل: هل يمكن أن نعود ولا نجد المنزل؟ خوف الفقدان أصبح طاغيًا، وبدأت اشعر أن تلك لم تكن نزهة جميلة أو أوقاتًا للاستمتاع. أصبحت انتظر بفارغ الصبر أن يتوقف كل هذا لنعود إلى بيتنا. تجربة الهرب والبحث عن ملجأ في مكان مجهول كانت أبعد ما يكون عن أن تشعر طفلة بأمان داخلي، كان الخوف يتعاظم في كل يوم والقرف من هذا الحبس الاضطراري الذي يفترض أن يكون آمنًا يزداد. عدنا، لا أذكر بعد كم من الوقت، ربما عشرة أيام ولكنني الآن اشعر أنها كانت أطول لكثرة بؤسها. عدنا وكان أبي هناك، وكان المنزل هناك في مكانه رغم أن بعض جدرانه تصدّع قليلًا من طائرة حلقت قربه على ارتفاع منخفض كما اخبرنا أبي لاحقًا. حينها قلت لهم، وكنت أعنيها في المرة القادمة ولو قامت الدنيا لن نترك المنزل، نموت هنا ونبقى.
ولكن المرة القادمة جاءت ولم أكن في منزلنا الجنوبي، كنت قد انتقلت الى ضاحية بيروت هذه المرة وكانوا هم ما زالوا في الجنوب. والضاحية التي كانت آمنة في المرة السابقة، لم تعد كذلك الآن، امتدّ الخطر ليشمل مناطق أبعد من الجنوب. شرفة منزلي هناك كانت تطلّ على مطار بيروت، مساحة مفتوحة في الايام العادية ليسرح نظري ولكنها في ذلك اليوم من تموز 2006 كانت المكان الذي تسمّرت فيه لأرى القنابل تتساقط على مدرجات المطار وبراميل الغاز فيه تنفجر وتحترق. لم أستطع أن أعي ما يحدث، كانت الأحداث متلاحقة، اسرائيل قصفت طرقات الجنوب الرئيسية وقطعتها، ورأيت ألسنة اللهب في المطار بعيني، فهل انتهت هنا؟ هل هناك أكثر؟ كم بعد؟ يوم؟ يومان؟ أسبوع؟ ماذا بعد؟ ماذا بإمكانهم أن يفعلوا بعد؟ ولكن بإمكانهم أن يفعلوا الكثير وأن يتوحشوا على مدى ثلاثة وثلاثين يومًا لم يكن بمقدور عقلي أن يستوعبها. عاهدت نفسي في المرة السابقة ان لا أترك منزلي ولكن لا منزل لي الآن، شقة مستأجرة ومبلغ صغير من المال لا أدري إلى متى يكفيني. مجددًا بدأت رحلة الانتقال من مكان إلى آخر، مجددًا أماكن لم أردها. كنت لأسعد لو جئتها بإرادتي ولكنني كرهتها لأنها كانت حبسًا. هذه المرة هناك هواتف خلوية أتواصل بها مع أهلي، هم أيضًا خائفون، كبرنا نحن البنات ولكن أصبح لأهلي أيضًا صبيين صغيرين، كان أحدهما في السادسة والآخر في الخامسة. هل يبقون في الضيعة، كا قررنا جميعًا أننا سنفعل منذ عشر سنوات أم يهربون من أجل أخوتي هم غير القادرين على اتخاذ قرار. الطرقات لم تكن آمنة أيضًا، هذا العدو يقصف كلما رأى شيئًا يتحرك حتى لو كان باصًا فيه أطفال. أذكر أن أيام الحرب كلها كانت بالنسبة لي عبارة عن نشرة أخبار تلفزيونية طويلة، أستيقظ صباحًا لأجلس أمام التلفاز وأتنقل من محطة إلى أخرى وأعرف ما يجري، أتحرك من مكاني فقط لأتناول الوجبات أو لمشوار صغير قبل ان أعود بسرعة لأرى ما فاتني. كلما قُتل أطفال يكبر حزني قليلًا وتصغر مساحة الامل في أن يأتي زمن تنتهي فيه هذه الحرب اللعينة. في الليل، أنام وأسمع من بعيد أصوات الصواريخ المتساقطة على الضاحية. في وقت ما، ربما بعد عشرة أيام أو أسبوعين من بدء الحرب التقينا أنا وأهلي في ضيعة ما في الجبل. الهموم هذه المرة مختلفة، نحن في بيوت أناس غرباء عنا ولو عاملونا بكل لطف. عادت بشاعة التهجير لتلقي بظلها، وعاد الخوف من المجهول. إلى متى سنبقى على هذه الحالة؟ كل يوم يقع مبنى سكني جديد، يُقطع جسر، تُقصف طريق، يعود ذلك السؤال: هل سنعود لنجد بيتنا؟ ورغم أنني لا أحب بيت الضيعة بالضرورة إلا أنني اتساءل هل ستضيع كل كتبي؟ صور العائلة؟ تلك التفاصيل الصغيرة؟
أُعلن وقف اطلاق النار في الثامنة من صباح يوم في آب، وفي الثامنة كنا في السيارة عائدين الى الجنوب ومعنا أرتال من السيارات. مجددًا بيتنا كان مازال واقفًا، تصدّع قليلًا. شهور ما بعد الحرب كانت شهور معاناة هي الأخرى، استغرقت الكهرباء شهورًا لتعود الى منازلنا. أخذنا وقتًا لنعود إلى نمط حياتنا السابق ونستعيد “طبيعتنا”. لا أدري إن كان يمكن لمن يخرج من تجربة الحرب أن يعود طبيعيًا، تبقى التجربة في الروح ونحملها في دواخلنا دائمًا. تعود الحياة، نستأنف العمل والدراسة واللهو والمتعة، ننسى من ماتوا ونكمل ولكننا نحمل معنا عبئًا وتجربة مؤلمة ومشاهد مخيفة تستيقظ في لحظات ظلمة الحياة وتذكرنا ببشاعتها.

أترك تعليق