استهلاك الحب
كيف كان الناس يتعرفون ويتواعدون ويدخلون في علاقات قبل زمن الانترنت والعالم الافتراضي وتطبيقات المواعدة؟
كيف كان شكل العلاقات قبل أن يصبح الواتساب وسيلة التواصل الثابتة واليومية بين كل اثنين دون مجال للراحة من الكلام والإخبار والمتابعة؟
تبدو تطبيقات المواعدة كنافذة تسوق، يدخلها الفرد ويجد أمامه خيارات لا تنتهي وما عليه سوى أن تضغط على الشاشة، نعم أم لا، كما عندما يختار ثيابه
منها ما لا يعجبه من النظرة الأولى فيتخطاه فورًا ومنها ما يتطلب نظرة إضافية ومنها ثالثة و”قراءة” أقرب للملصق المرافق قبل أن يقرر أن يقيسه أو يرميه جانبا أيضًا.
كثرة الاحتمالات توحي أن بإمكانه دومًا أن يجد أفضل.
ربما هذه الكنزة مريحة وقطنها جيد ولكن لا لونها لا يناسب بشرتك تتأملها قليلًا، ربما تتردد ولكن تضعها جانبًا لأنك “تعرف” أنك ستجد لونًا أجمل .. أو شريكًا؟
تحول تطبيقات المواعدة لقاء الآخرين إلى احتمالات واعدة وكثيرة لعلاقات لا بد أن تكون إحداها مثالية بالانتظار.
لذا ينتقل الأشخاص هناك من محادثة إلى أخرى ومن لقاء أول إلى لقاء أول آخر ومن علاقة إلى علاقة.
لا بد أن الشريك “المقدر” لك في هذا الكوكب موجود في مكان ما ولكنك لم تلتقه بعد، ويا للسخرية هو أيضًا في هذه اللحظة ينشئ حسابه على تطبيق المواعدة نفسه الذي اخترته وستلتقيان كما أراد القدر أو المكتوب أو ربما… الألغوريتم؟
وفي هذا الركض الدائم لإيجاد الشريك المثالي والعلاقة الحلم ينسى الأشخاص أنهم هم من يصنعون العلاقة ويتغيرون بها ومعها. نميل لنتجاهل أن لنا دورًا في العلاقات ومن السهل أن نعتقد أن المشكلة فيها وليست فينا.
مع تطبيقات المواعدة تأتي لائحة من المفاهيم طبعًا
الإشارات الحمراء وفي ترجمة أخرى الأعلام الحمراء التي تلوح لنا (red flags)
ولا علم لي كيف بدأ المصطلح (ربما من شي لايف كوتش بس ما إلي جلد أبحث أكثر في هذه اللحظة) ولكنه ما اتفق على اعتباره إشارات تلتقطها في أول العلاقة لتدلك على أن هذا الشخص مؤذ وغير مناسب. المفهوم بحد ذاته ليس سيئًا فأن تعرف أن شخصًا يميل للعنف وتتجنبه من البداية بدل الدخول معه في دوامة قد يكون مفيدًا. المشكلة؟ أنه ككل شيء يتناقل من لايف كوتش إلى لايف كوتش يصبح مجرد مصطلح للضحك والنكتة لأننا سندخل في العلاقة رغم ذلك.
فنحن لسنا هنا لنتعلم من أخطائنا وأخطاء غيرنا، نحن هنا لنكررها مرة بعد مرة ونقول أن الشخص المثالي، الذي سيفهنا جيدًا، بم يأت بعد.
أما العلاقات السامة -التوكسيك- كما الأشخاص فستجد عنها مطولات هنا وهناك، مع قائمة تدقيق تسمح لك بتحديد إذا ما كانت علاقتك- أو الشخص أمامك- سامًة. أما أن تحاول فهم الدينامية التي تؤدي إلى مشاكل أو سوء تفاهم بينكما فذلك أبعد مما يحتمله النفس القصير للاستثمار في العلاقة. إما تتحمل دواماتها كما هي على أمل أن يحل السلام، فجأة، على رأس الآخر وتتبدد السموم أو تنسحب وتواصل الشكوى من كونك ضحية لعلاقة سامة قبل أن تدخل في .القادمة
وإن كانت الرأسمالية تدير كل تفاصيل حياتنا من طعام وشراب وتنقل وعمل ودوام وترفيه فهل من المستغرب أن تدير أيضًا علاقاتنا؟ وتقرر عنا كم نصاحب ومتى وكيف؟
وأن تصبح طرائقنا في اللقاء متناسبة مع حياتنا التي أصبح نصفها أونلاين ليس بحد ذاته مشكلة. هي مجرد وسيلة كما يقال.
الواقع أننا استبطنّا الموضوع قبل الوسيلة نفسها.
أصبح الاستهلاك مدير العلاقات، علاقات الحب وعلاقات الصداقة والرفاقية.
وبدل أن تكون الحياة للتشاركية مع آخرين اخترناهم لما تبادلناه معًا من أوقات وأفكار ومشاعر تصبح الحياة للفردانية .والاحتمالات الشخصية والعلاقات “الأفضل” التي يبقى احتمال أن نجدها
كلما استهلكنا أكثر كثرت المتعة ولكن أيضًا الخواء ومواصلة الركض لإيجاد متعة أكبر.
كلما “امتلكنا” شخصًا وعرفناه بما يكفي سقط من لائحة اهتمامنا وننتقل للآخر الذي ما زال “يبرق” بعده. لا يهم إن كان هذا الامتلاك جاء من ساعتين التقينا فيها على فنجان قهوة وعرفنا ما نريد أن نعرفه أو من علاقة استطاعت أن تمتد معنا أسابيع على السطح أو من محاولة بناء لعدة شهور. كله يحمل معه احتمال السقوط الناتج من الملل ووهم السعادة في مكان آخر، قريب وفي المتناول. وكلما “اخترنا” اقتنعنا أكثر أننا أحرار وأن القرار بيدنا وليس مفروضًا علينا .كما حصل مع من سبقونا ممن لم تتح لهم كل هذه المسودات لعلاقات أو شبه علاقات
بالعودة إلى العلاقات قبل العالم الافتراضي، الزواجات المدبرة والتي من المفترض أن تدوم مدى الحياة، والصداقات في القهوة واللقاءات حول لعبة، والعلاقات العائلية الممتدة، اللطيفة منها والاجبارية، لم يكن ذلك عالمًا جيدًا طبعًا رغم حلاوة بعض جوانبه.
وكأن هناك محاولات تبدو عضوية منذ خمسين سنة وحتى اليوم للخروج منه.
وتشكيل عالم جديد وبنية جديدة للعلاقات.
وتبدو عضوية لأنها جاءت في سياق ثورات من أجل الحريات بكل أشكالها. بحيث نتأمل في علاقات أكثر حرية ومحبة وانفتاح.
ولكن يترافق ذلك مع غرق في النظام الرأسمالي تفقد معه معناها وتصبح مرحلة أخرى من السيطرة والتحكم التي تختبئ تحت عناوين الخيارات المتعددة والاحتمالات اللانهائية والحريات الفردانية التي تقتلع الناس من الإمكانية البسيطة والعفوية لإيجاد علاقات فيها من اللطف والاحتواء والسكون ما يكفي لكي لا تحتاج مثاليتها.