ما النسوية للرجال؟
ظللت لسنوات طويلة أتجنب أن أقول عن نفسي أنني نسوية. رغم أنني كنت خلالها أعرف وأفكر وأدافع وأناضل من أجل حقوق النساء ولكنني اعتقدت أنه لا يجب أن أصف نفسي بها لأن نسويتي ليست “كاملة”، ما زال ينقصني الكثير. فهمت لاحقًا أن النسوية ليست مطلقة وأن ما يميز النسوية هو عدم الكمال. جزء من النسوية هو حقنا أن نخطئ ونسامح، أنفسنا كما غيرنا من النساء.
استوعبت أن ترسبات المجتمع الأبوي وما تركه في نفوسنا وأذهاننا ليست شيئًا يمكن التخلص منه والمرور بعدها إلى عالم النسوية. جزء من النسوية أيضًا أن نقبل أن ممارسات وأفكار ذكورية ستطفو من دواخلنا، ونسويتنا ستساعدنا في تخطيها خطوة خطوة.
النسوية حركات اجتماعية وسياسية كما نظريات هدفها العدالة بين الأنواع الاجتماعية ولا تحصر نفسها في ثنائية “رجل وامرأة”. النسوية إطار يساعد في النظر إلى الممارسات والوقائع والتصرفات والأفكار وفهم مدى عدالتها تجاه الأنواع الاجتماعية. هي أداة يومية لرؤية أنفسنا والعالم أكثر من كونها صفة نطلقها على أنفسنا وتنتهي مهمتنا.
حاولت دائمًا أن أشرح ذلك لمن يواجهونني معتقدين أن النسوية هي المعاكس لصفة “الذكورية”، وأن طموح النسويات هو أن تسيطر النساء على المجتمع بدل الرجال. يستسهل الرجال خاصة هذا الفهم والاستنتاج السريع عن النسوية من مجرد قراءة الكلمة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والقراءة قليلًا عن نظرية اجتماعية أمضت نساء كثيرات عقودًا من الزمن في الكتابة عنها. فهم، طبعًا، يعرفون أكثر ماذا تعني الكلمة ولا يحتاجون هذا العناء الذي نتكبده للبحث والتفكير والكتابة فيها.
في مقابل ترددي في وصف نفسي بالنسوية، عرفت الكثير من الرجال الذين يصفون أنفسهم بالنسويين. وهذا جيد، بالطبع. هذا جيد إن كانت أفكارهم تتفق مع ممارساتهم. ولكن أعتقد أن معاناتنا نحن النساء من ظلم وقمع المجتمع الأبوي تجعلنا نبذل جهدًا أكبر وأسرع للتخلص من ممارساتنا الذكورية التي تركها المجتمع فينا.
فممارسات الرجال الذكوية امتياز لهم، لماذا قد يبذل رجل جهدًا للتخلص من امتياز؟
كنت في حديث مع صديقة منذ فترة، وقالت لي أنها تشعر أن بعض الرجال يحاولون أن يتقربوا منها ويصبحوا من دائرتها فقط ليحصلوا على غطاء “نسوية” ولأن قربهم منها أو صداقتهم معها يعني أنهم “موضع ثقة” لنساء أخريات. يسلك الرجال على الأغلب السبل السهلة لاكتساب الصفة المنتظرة.
ويقع الرجال النسويون في نفس فخ “الصفة” هذا. فهم ربما بذلوا جهدًا ما، غيروا أفكار وممارسات في أنفسهم وحصلوا على الوصف وانتهت مهمتهم. من غير المسموح للنسويات بعدها أن يشككوا في سلوك قاموا به أو فكرة أدلوا بها. “لقد دافعت عن حقوقك معك وناضلت معك فكيف تجرؤين على وصف فكرة أقولها بالذكورية؟”
وإن لم تكن النسوية مراجعة دائمة للذات وما يصدر عنها فماذا تكون؟
وقد تبدو بعض الممارسات الذكورية واضحة، وإن لم تكن بديهية للكثيرين، فهي ملموسة وتسهل رؤيتها أو رؤية نتائجها. عنف جسدي، تحرش، اغتصاب، ضرب، تكسير، صراخ، إهانات، حرمان من المال، تمييز في القانون بين رجل وامرأة… ولكن من الأمور التي من الصعب تمييزها، ومعرفة أنها فينا، العنف المعنوي. ذلك الذي يمارس بهدوء ويجعل النساء داخل العلاقات أو في العائلة يشككن في أنفسهن دون أن يعين السبب لأن العنف ليس بالضرورة “مادي”. قد يأتي من أب حنون أو شريك لطيف وداعم. وقد يتطلب استيعاب هذا العنف سنوات من المحاولة سواء من الشخص الذي يتعرض له أو حتى الذي يمارسه. وأعرف أن المحاججة هنا ستكون أن هذا العنف، كما غيره، يمكن أن يأتي من النساء أيضًا وأنه مرتبطة بدينامية العلاقات الشخصية. ولكن كما كل عنف، هذه الممارسات ليست فردية، وهي تأتي من سلطة هذا المجتمع الأبوي ووسائل التنشئة التي تكوّن شخصيات ذكورية تعطيها امتياز السيطرة والقوة والتفوق والقدرة على التقليل من شأن الآخر، “الأنثى”. وإن لم يتجل ذلك لاحقًا بشكل عنف مادي مباشر، يأتي -على الأغلب- بشكل عنف معنوي من الصعب أن نعي جذوره. فتحاسب النساء مثلًا لأنهن يعبرن عن مشاعر أو انفعالات في الوقت الذي بنظر الرجل هذا وقت “المنطق“؛ أو يتعرضن للوم لأنهن بكين بينما بالنسبة له “لا داعي للبكاء“، أو يقلل من أهمية قلقهن وألمهن بسبب ما قام به الآخر لأن النساء “يبالغن في النكد دون سبب“. يكرر الرجال غالبًا الثنائية الناتجة من نظام أبوي يقدم “العقل والمنطق” على “المشاعر والإنفعالات” والتي يريدون دائمًا أن يزيحوها جانبًا لأنها “لا تريحهم”، متناسين أن هذا مجددًا السبيل الذي لا يتطلب منهم الكثير من الجهد. الأسهل تعنيف النساء ولومهن على “حساسيتهن”.
وعندما تعي النساء الدوامة التي يعشن فيها لا يكون الخروج بسيطًا خاصة عندما يكون المعنف في دائرتها الضيقة التي تثق بها. وصفته بالنسبة لها ليست “معنف” وهنا فخ الصفات مجددًا. فالأمور ليست مطلقة والنفس البشرية تركيبة معقدة. العنف المعنوي هنا ممارسة متكررة ولكن لأنه قد يأخذ هذا الوقت الطويل لاستيعابه تختلط صفات الأشخاص الذين يمارسونه ويمكن أن يصبح “النسوي” “معنفًا”.
والمشكلة برأيي ليست في الصفة بل في كيفية التعامل معها. لا أمانع، بل أبادر بنفسي، لوصف بعض تصرفاتي الشخصية بالذكورية عندما أتنبه لها وهذا حق الخطأ، لي وللآخرين. ويكون هذا هو الجرس الذي يرن في رأسي لأبدأ بتغييرها؛ بعضها مباشرة وبعضها أخذ شهورًا وسنوات للتخلص منه لعمق تأثيره. ولكنني أواصل المحاولة وتلك هي نسويتي.
ومن أجمل ما قيل لي “كيف تدّعين النسوية وتصرفتِ هكذا؟ كيف تدّعين النسوية ورضيتِ بالتحرش؟ كيف تدّعين النسوية وقبلتِ بذلك لنساء أخريات؟” تضع هذه الأقوال وزر المجتمع الأبوي وثقله على النساء وتحملهن مسؤولية قمعه لهن وللأخريات، كالعادة. وتأتي، في أحيان كثيرة، من رجال يرفضون هم أنفسهم التشكيك في نسويتهم. فهم طبعًا أنجزوا ما عليهم والباقي “لم يقدروا عليه”، أما النساء فعليهن أن يواصلن إثبات “كمال” نسويتهن والتصفيق للرجال في الوقت عينه.