حكاية العدم

ان أسخر من نفسي تلك موهبة لم اتقنها بعد. أن أسمح لها بأن تخطئ وأضحك على هذه الأخطاء قدرة خارقة أكاد أشعر أنني لن أمتلكها يومًا.
أن أتقبل أنني قد أتسبب بأذى للآخرين في رحلة أخطائي، ذلك حمل مرهق أمشي به في نهاري وينام معي على وسادتي.
تقول معالجتي النفسية: لا أحد كامل، تكاد تكررها في كل جلسة كلما رأتني أعاقب نفسي وأصارع كي لا أرتكب ولو هفوة أبتسم ثم أضحك وأقول: أدرك ذلك ولكن ماذا أفعل، عقلي الباطن غير قادر على استيعابه يعمل وحده ليحاسبني، حتى لو توقفت لحظة وتخطيته سيلاحقني في أحلامي
لعنة الاحساس بالذنب أعيشها مع قلق متنقل دائم الوسوسة. يعلو ويرتفع ثم ينخفض ليلة ويسمح لي بالنوم. ثم يرافقني في الأيام التالية حتى يرهقني. ليست كل الليالي متشابهة ولا كلها محملة بالأرق ولكن بعضها يكون قاسيًا عندما يترافق القلق مع احساس بالرفض أو أن أحدًا ما تخلى عني.

نمت في تلك الليلة حزينة، لا لم أنم حاولت النوم ولكنني كنت في سريري باكية، قبلها بساعات كنت قد اتصلت بصديقتي باكية. كان الوقت متأخرًا، ذهبنا لنجلس في مكان ما من بيروت، لم يكن مكانًا مريحًا، كنت فقط بحاجة للبكاء والكلام
حاولت أن تقول كل ما اعتبرت أنني بحاجة لسماعه، ولا أنكر الآن أن وجودها بجانبي تلك الساعة كان شيئًا احتجته، ولكنه لم يكن كافيًا ليبعد كآبتي وكانت تفهم ذلك.
عشت لحظات جميلة كثيرة مع أصدقاء ليسوا كثر، ومع صديقتي هذه أيضًا لكن بعض هذه اللحظات يحفر في الروح، عندما تقاسم شخصًا آخر الألم لأنه لم يعد يُحتمل. نادرًا ما أفعل ذلك. ولكن، عندما غادرت تلك الليلة، عدت لأعيش وجعي وحدي وكان عميقًا وكان كبيرًا وكان قاتلًا.. تقريبًا

النوم لا يأتي، رأسي على الوسادة وأحاول اجبار عقلي أن ينسى أفكاره السخيفة ولكن الأرق لا ينتهي، والليل يبدو طويلًا ويبدو أبديًا.
في تلك الليلة، عشت حرفيًا ما سمعته دومًا، عرفت ما معنى أن يكون وجع النفس أصعب من وجع الجسد. أسمع كل تلك الأصوات في رأسي، ويحفر الألم أكثر، الاكتئاب والوحدة والشعور بأن أقرب الناس لا يعنيهم وجودي ولم ولن يختاروني يومًا.
يمرّ الوقت وأجاهد نفسي كي أتحمل وجعي حتى الصباح، ولكنه يصبح قويًا في رأسي، فأنهض من السرير وأمشي في البيت، أبكي وأحاول أن أكتشف كيف يمكن لكل هذا أن ينتهي. أقف على الشرفة، أنظر للأسفل وأشعر أن لا خلاص من هذا الوجع إلا بالموت، ليس إلا العدم سيخرج كل هذا من رأسي. لم أكن قادرة على التفكير بأي شيء آخر قد أفكر فيه الآن أو في أي لحظة عقلانية أخرى عن الحياة. كنت فقط أريد أن أنهي الألم، وعلى حافة شرفة الطابق السادس، لم يكن ذلك بعيدًا، كان يبدو الموت أسهل من ألم اللحظة.
الانتحار صوت موجع في الرأس، ألم في عمق النفس، سؤال يبقى عالقًا واستحالته تبدو لنا نهاية.
لم أرد سوى أن أموت لينتهي كل هذا، لم أرد سوى أن أموت لأعرف أن لوجودي معنى، مع أنني أدرك أنني لم أكن سأعرف لو فعلتها.
الانتحار وسيلة لتقول للآخر واحدًا كان أو عائلة أو جماعة أنا هنا عبر الإختفاء.
أشعر أن وجودي أو عدمه لا يعني شيئًا فقررت عدمه. في الانتحار كل هذه التناقضات، هو ليس خيارًا ولكنه أيضًا ليس مفروضًا. الانتحار فعل  اعتراض أو فعل غضب على آخر، جماعةً أو نظام
ومن خلف هذا الآخر، آخرون أو منظومات بكاملها وتراكمات أوجاع وآلاَم تجلت في فعل  غياب مطلق ونهائي وقاس.
اليوم لست أكيدة إن كان خيار البقاء أفضل ما فعلت، لست أكيدة أن كل محاولة موت تشبه هذه.
اليوم أنا أكيدة أن وحدتي ما زالت هنا وأن شيئًا لم ينته. ولكن هل أفضل لو كانت حياتي هي ما انتهى؟! لا أعرف، ليس لدي إجابات ولم أجد لنفسي أسبابًا للبقاء ولا للموت أيضًا. أبقى لأن علي ذلك، أبقى من أجل لحظات قليلة  أتأمل أن تصبح أكثر يومًا ما.
في ليال أخرى، تكررت تلك الليلة، ليس بنفس الحدة ولكن الأرق رفيق دائم وكذلك الخوف والقلق
غابت فكرة الإنتحار حتى إشعار آخر وها أنا أتعايش مع قلقي ومع ليال بلا نوم. ترددت كثيرًا قبل أن أكتب هذا النص ولكن في الأسابيع الأخيرة، تكلم أناس كثيرون منهم من أعرفه ومنهم من لم التقيه عن تجاربهم مع محاولات الانتحار، مع الاكتئاب ومع الألم النفسي.  لكل منا قصة، نتشابه ونتقاطع في جزء من حكايتنا ويبقى في العمق جزء آخر قد لا نستطيع حتى التعبير عنه أو روايته. الكتابة عنها ليست فعلًا سهلًا، كذلك التعايش معها ولكنني كتبت لأنني اكتشفت أن معظمنا كان هناك ومرّ بهذه اللحظة وإن لم نعترف. كتبت هذه النص خلال وجودي في القاهرة بضعة أيام، بعد أن تركت بيروت مع احساس عميق بالكآبة. منذ شهر، كانت مجرد فكرة ترك المدينة وشوارعها ترعبني. لم أكن قادرة على الذهاب إلى أي مكان في الكون، كنت مبهورة بما يحدث. ثم عاد الشعور أن لا مكان لي هنا، اللحظة الثورية لا يمكن أن تغطي البشاعة والذل وقبح المدينة. هذه بلاد باردة وقاسية ولحظاتها المضيئة كالسابع عشر من تشرين وما تلاه ليست كافية لتبعد شبح العدم.

لا أدري إن كان سيبقى فكرة أو سيصبح فعلًا، ولكن الأكيد أن تلك ليست تجربة جميلة ولكن أيضًا، هذه الحياة ليست تجربة جميلة. فلتذهب كل تلك الشعارات التي تمجّد الإيجابية إلى الجحيم. لا نحتاج أحدّا ليخبرنا كيف يجب أن نرى الحياة. إنه مسار طويل من تقبل البشاعة والتعايش معها، تقبل بشاعتنا وبشاعة هذا النظام الذي نعيش فيه والبحث في بعض خطواته عن لحظات متعة وجمال وحب قليلة.

 

1 Comment

  1. نيكول dňa 22/12/2019 o 3:01 ص

    أنت جد شجاعة! هكذا أراكي!
    في بعض الأوقات يمكن أن يكون سبب إحساسنا بالعجز هو محاولتنا لتغيير أنفسنا في حين أن ما قد يحيينا هو ببساطة القناعة بالتالي: أنا لا أحب نفسي و أكره وساوسي وهذا الأمر لن يتغير أبدا. فلا نفسي ستتجدد ولا وساوسي سيعز عليها أن ترحل عني! هي مني! هي أنا!”

Leave a Reply Cancel Reply